ملخص كتاب "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد" لجون ماينارد كينز

 



ملخص كتاب "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد" لجون ماينارد كينز

1. مقدمة في كتاب "النظرية العامة":

يُعد كتاب "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد" الذي نُشر عام 1936 للمؤلف البريطاني جون ماينارد كينز (1883-1946) علامة فارقة في تاريخ الفكر الاقتصادي، حيث وضع الأسس لعلم الاقتصاد الكلي الحديث. صدر هذا العمل الهام في خضم فترة الكساد الكبير (1929-1936)، وهي حقبة اتسمت بانتشار البطالة على نطاق واسع وانكماش اقتصادي حاد على مستوى العالم. واجه الاقتصاديون في تلك الفترة تحديًا كبيرًا في فهم أسباب هذا الانهيار الاقتصادي الحاد وتقديم حلول فعالة له، إذ عجزت النظريات الاقتصادية السائدة آنذاك عن تقديم تفسيرات مقنعة أو استراتيجيات عملية للخروج من الأزمة.

في هذا السياق، سعى كينز من خلال كتابه "النظرية العامة" إلى تقديم تحليل جديد وشامل لأسباب الكساد الكبير، وتطوير إطار نظري بديل للاقتصاد الكلي قادر على تفسير هذه الظواهر وتقديم حلول لها.3 لم يكن الكساد الكبير مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل كان بمثابة حافز لإعادة تقييم الأسس التي يقوم عليها علم الاقتصاد. لم يكتفِ كينز بوصف مظاهر الأزمة، بل تعمق في فهم الآليات المعقدة للاقتصاد الكلي بهدف تقديم حلول جذرية لهذه المشكلات. لقد كان السياق التاريخي للكساد عاملًا حاسمًا في تشكيل أفكار كينز وتحديد الأهداف التي سعى إلى تحقيقها من خلال كتابه.

تمثلت الأهداف الرئيسية التي وضعها كينز نصب عينيه عند كتابة "النظرية العامة" في عدة جوانب. أولاً، كان يهدف إلى إقناع مجتمع الاقتصاديين بضرورة إعادة النظر بشكل نقدي في بعض الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها نظرياتهم الاقتصادية. كان يعتقد أن الخطأ في الاقتصاد التقليدي لا يكمن في البناء النظري المعقد، بل في عدم وضوح وعدم شمولية المقدمات التي يستند إليها هذا البناء. ثانيًا، سعى كينز إلى تحدي الفكرة الراسخة بأن الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد على نظام السوق اللامركزي قادر على توليد فرص عمل كاملة وأسعار مستقرة بشكل تلقائي. ثالثًا، أراد أن يوضح أن مستوى التوظيف في الاقتصاد لا يتحدد بسعر العمل كما كان يُعتقد في الاقتصاد الكلاسيكي، بل بمستوى الطلب الكلي على السلع والخدمات.

بالإضافة إلى ذلك، كان هدف كينز هو تقديم نظرية عامة للتوظيف والفائدة والنقد تكون أكثر شمولية وقدرة على تفسير الواقع الاقتصادي من النظريات الكلاسيكية التي اعتبرها كحالة خاصة تنطبق فقط في ظروف معينة. كما سعى إلى توفير أساس نظري ومنطقي لبرامج الوظائف الحكومية كحل فعال لمشكلة البطالة المرتفعة التي كانت سائدة في عصره. وأخيرًا، أكد كينز على الدور المحوري للمال وأهميته في التأثير على مستوى التوظيف والناتج الاقتصادي بشكل عام. لم يكن هدف كينز مجرد إجراء تعديلات طفيفة على النظريات الاقتصادية السائدة، بل إحداث تحول جذري، أو ما يُعرف بـ "الثورة الكينزية" ، في طريقة تفكير الاقتصاديين، والانتقال من التركيز بشكل أساسي على العرض إلى التركيز على الطلب الكلي كمحرك رئيسي للنشاط الاقتصادي. إن استخدام مصطلح "النظرية العامة" في عنوان الكتاب نفسه يعكس طموح كينز لتقديم إطار نظري شامل ومتكامل يتجاوز القيود المفروضة على النظريات الكلاسيكية، ويوفر أدوات جديدة لفهم وإدارة الدورات الاقتصادية المختلفة.

2. المفاهيم الأساسية في نظرية كينز :

يُعد مفهوم الطلب الكلي حجر الزاوية في نظرية كينز الاقتصادية. يشير الطلب الكلي إلى إجمالي الإنفاق على السلع والخدمات في اقتصاد معين خلال فترة زمنية محددة. يتكون هذا الطلب من أربعة عناصر رئيسية: الإنفاق الاستهلاكي (C) من قبل الأسر، والإنفاق الاستثماري (I) من قبل الشركات، والإنفاق الحكومي (G) على السلع والخدمات العامة، وصافي الصادرات (X-M)، وهو الفرق بين قيمة الصادرات وقيمة الواردات. أكد كينز أن مستوى الطلب الكلي هو القوة الدافعة الأساسية للاقتصاد، وأن حجم هذا الطلب هو الذي يحدد مستوى الإنتاج والتوظيف في أي وقت. في أوقات الركود الاقتصادي، غالبًا ما يكون الطلب الكلي غير كافٍ لتحقيق مستوى التوظيف الكامل للموارد المتاحة.2

لقد قلب كينز بذلك المعادلة الاقتصادية الكلاسيكية التي كانت ترى أن العرض هو الذي يخلق الطلب (ما يُعرف بقانون ساي). فبدلاً من هذا التصور، جادل كينز بأن الطلب هو الذي يحرك عملية الإنتاج ويحدد مستوى التوظيف في الاقتصاد. هذا التحول في التركيز كان له تأثير عميق على طبيعة السياسات الاقتصادية التي اقترحها كينز لمعالجة المشكلات الاقتصادية. لم تعد الفكرة الكلاسيكية بأن كل ما يتم إنتاجه سيتم بيعه تلقائيًا مقنعة في ظل أزمة الكساد الكبير، حيث كانت هناك طاقات إنتاجية معطلة ومعدلات بطالة مرتفعة. رأى كينز أن المشكلة الأساسية تكمن في نقص الرغبة أو القدرة على الإنفاق في الاقتصاد، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي، وبالتالي انخفاض مستويات الإنتاج والتوظيف.

مفهوم آخر أساسي في نظرية كينز هو ميل المستهلك (Propensity to Consume)، والذي يشير إلى النسبة من أي زيادة في دخل الفرد التي يخصصها للاستهلاك.1 اعتقد كينز أن هذا الميل يزداد مع ارتفاع مستوى الدخل، لكنه يزداد بنسبة أقل من نسبة الزيادة في الدخل. وهذا يعني أنه كلما زاد دخل الأفراد، فإنهم يميلون إلى إنفاق المزيد من الأموال بشكل مطلق، لكن المبلغ الذي ينفقونه يمثل نسبة أصغر من إجمالي دخلهم. وصف كينز هذه الظاهرة بـ "القانون النفسي" وأكد على أهميتها القصوى في فهم العلاقة بين الدخل والاستهلاك في الاقتصاد. إن انخفاض ميل المستهلك في مجتمع ما يمكن أن يؤدي إلى انخفاض مستوى الطلب الكلي، وبالتالي إلى حدوث ركود اقتصادي.

إن ميل المستهلك ليس مجرد مفهوم إحصائي، بل يعكس أيضًا جوانب نفسية واجتماعية في سلوك الأفراد تؤثر بشكل كبير على ديناميكيات الاقتصاد. فهم هذا الميل يساعد في تصميم سياسات اقتصادية أكثر فعالية لتحفيز الإنفاق الاستهلاكي. فقرار الأفراد بشأن كيفية توزيع دخلهم بين الاستهلاك والادخار له تأثير مباشر على مستوى الطلب في الاقتصاد. إذا كان الأفراد يميلون إلى ادخار نسبة كبيرة من دخلهم، فقد لا يكون هناك طلب كافٍ لتحقيق التوظيف الكامل للموارد الاقتصادية.

كما قدم كينز مفهوم تفضيل السيولة (Liquidity Preference)، والذي يعبر عن رغبة الأفراد والشركات في الاحتفاظ بأصول سائلة، مثل النقد، بدلاً من الاحتفاظ بأصول أقل سيولة مثل السندات والأسهم والعقارات.حدد كينز ثلاثة دوافع رئيسية وراء هذا التفضيل للسيولة: دافع المعاملات، والذي ينبع من الحاجة إلى الاحتفاظ بالنقود لإجراء المدفوعات اليومية؛ ودافع الاحتياط، والذي يتعلق بالرغبة في الاحتفاظ بالنقود لمواجهة الظروف الطارئة أو النفقات غير المتوقعة؛ ودافع المضاربة، والذي يرتبط بمحاولة الاستفادة من التغيرات المستقبلية في أسعار الأصول.

يرتبط تفضيل السيولة ارتباطًا وثيقًا بمستوى سعر الفائدة في الاقتصاد. سعر الفائدة هو في جوهره "المكافأة" أو التعويض الذي يجب تقديمه للأفراد والشركات لإقناعهم بالتخلي عن سيولتهم والاحتفاظ بأصول أقل سيولة تحمل عائدًا.عندما يزداد تفضيل السيولة لدى الأفراد والشركات، يرتفع الطلب على النقد، مما يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار الفائدة في السوق. ارتفاع أسعار الفائدة يمكن أن يثبط الاستثمار والإنفاق بشكل عام، مما يؤدي إلى انخفاض مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد. يوضح مفهوم تفضيل السيولة الدور الفريد الذي يلعبه المال في الاقتصاد الكينزي. فالمال ليس مجرد وسيلة للتبادل، بل هو أيضًا مخزن للقيمة وأصل مفضل بشكل خاص في أوقات عدم اليقين الاقتصادي. هذا التفضيل للسيولة يؤثر بشكل كبير على قرارات الاستثمار والادخار التي يتخذها الأفراد والشركات، ويؤثر في النهاية على مستوى النشاط الاقتصادي العام. في النظريات الاقتصادية الكلاسيكية، كان يُنظر إلى المال غالبًا على أنه "محايد" ولا يؤثر على المتغيرات الحقيقية في الاقتصاد. لكن كينز رفض هذه الفكرة وأكد أن الرغبة في الاحتفاظ بالسيولة يمكن أن تؤثر بشكل كبير على أسعار الفائدة، وبالتالي على قرارات الاستثمار والإنتاج.

أخيرًا، قدم كينز مفهوم المضاعف (Multiplier)، الذي يشير إلى أن أي زيادة أولية في الإنفاق في الاقتصاد (مثل زيادة الإنفاق الحكومي أو الاستثمار) ستؤدي إلى زيادة أكبر في مستوى الدخل القومي الإجمالي. تعمل آلية المضاعف لأن الإنفاق من قبل فرد أو شركة ما يتحول إلى دخل لفرد أو شركة أخرى، وهذا الدخل الجديد سيتم إنفاق جزء منه وادخار الجزء الآخر، وهكذا تستمر الدورة في توليد المزيد من الإنفاق والدخل في الاقتصاد. يعتمد حجم المضاعف بشكل كبير على ميل المستهلك في المجتمع. فكلما كان ميل المستهلك أعلى، زاد حجم تأثير المضاعف على الدخل القومي. يُستخدم مفهوم المضاعف بشكل أساسي لتبرير تدخل الحكومة في الاقتصاد من خلال زيادة إنفاقها لتحفيز الطلب الكلي وتقليل آثار الركود الاقتصادي. إن المضاعف هو أداة قوية لتوضيح كيف يمكن لتدخلات صغيرة نسبيًا في الاقتصاد أن يكون لها تأثير كبير ومضاعف على مستوى النشاط الاقتصادي العام. يدعم هذا المفهوم فكرة أن الإنفاق الحكومي يمكن أن يكون وسيلة فعالة لمكافحة الركود الاقتصادي وتحفيز النمو.


3. تحليل أسباب البطالة والركود الاقتصادي :

قدم كينز في "النظرية العامة" تفسيرًا جديدًا لظاهرة البطالة المستمرة التي كانت سائدة خلال فترة الكساد الكبير. فقد عارض بشدة الفكرة الكلاسيكية التي كانت تربط البطالة بجمود الأجور أو بمشكلات في جانب العرض من سوق العمل. بدلاً من ذلك، جادل كينز بأن البطالة في أوقات الركود الاقتصادي تنجم بشكل أساسي عن نقص في الطلب الكلي على السلع والخدمات المنتجة في الاقتصاد. فعندما يكون الطلب على المنتجات غير كافٍ، تجد الشركات نفسها مضطرة إلى تخفيض حجم إنتاجها، وبالتالي تسريح العمال، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة في الاقتصاد.

اعتقد كينز أن هذا الوضع من نقص الطلب والبطالة يمكن أن يستمر لفترة طويلة من الزمن، وذلك لأن الاقتصاد لا يمتلك بالضرورة آلية تصحيح ذاتي قوية بما يكفي لإعادة تحقيق التوظيف الكامل للموارد الاقتصادية بشكل تلقائي. لقد قدم كينز بذلك تفسيرًا "طلبًا" للبطالة يختلف جذريًا عن التفسيرات "العرضية" التي كانت سائدة في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي. كان لهذا التحول في التفكير آثار كبيرة على طبيعة السياسات الاقتصادية التي اقترحها كينز لمكافحة مشكلة البطالة. فبدلاً من إلقاء اللوم على العمال أو على طبيعة سوق العمل، ركز كينز على فشل الاقتصاد الكلي في توليد مستوى كافٍ من الطلب على السلع والخدمات. وهذا يعني أن الحل لم يكن يكمن بالضرورة في خفض الأجور أو إجراء إصلاحات في سوق العمل، بل في اتخاذ إجراءات فعالة لزيادة مستوى الإنفاق الكلي في الاقتصاد.

في سياق تحليله لأسباب البطالة والركود، وجه كينز نقدًا جوهريًا لفكرة "التوظيف الكامل" التلقائي التي كان يؤمن بها الاقتصاديون الكلاسيكيون.2 فقد رفض كينز الاعتقاد بأن الأسواق التنافسية ستؤدي حتمًا وبشكل تلقائي إلى تحقيق التوظيف الكامل لجميع الموارد الاقتصادية المتاحة. كان يعتقد أن "علم النفس المتقلب وغير المنضبط للأسواق" يمكن أن يؤدي إلى فترات دورية من الازدهار والأزمات الاقتصادية، يصاحبها في الغالب مستويات كبيرة من البطالة المستمرة. وأكد كينز أن الادخار في الاقتصاد لا يتحول تلقائيًا وبشكل كامل إلى استثمار، وأن ما أسماه بـ "تفضيل السيولة" لدى الأفراد والشركات يمكن أن يؤدي إلى تراكم الأموال دون إنفاقها أو استثمارها، مما يقلل من مستوى الطلب الكلي ويؤدي إلى الركود والبطالة. لقد تحدى كينز بذلك الافتراض الأساسي للاقتصاد الكلاسيكي من خلال التأكيد على أن الاقتصاد الكلي ليس دائمًا في حالة توازن عند مستوى التوظيف الكامل، وأن هناك حاجة لتدخل فعال من الحكومة لتصحيح هذه الاختلالات وضمان تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتوظيف الكامل للموارد.

4. دور الاستثمار في نظرية كينز :

اعتبر كينز الاستثمار مكونًا حيويًا وأساسيًا من مكونات الطلب الكلي في الاقتصاد، إلى جانب الاستهلاك والإنفاق الحكومي وصافي الصادرات. وأكد على أن التقلبات في مستوى الاستثمار تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مسار الدورات الاقتصادية المختلفة. فعندما ينخفض مستوى الاستثمار في الاقتصاد، يؤدي ذلك إلى انخفاض في الطلب الكلي العام، مما قد يدفع الاقتصاد نحو الركود والانكماش. وعلى العكس من ذلك، عندما يزداد مستوى الاستثمار، فإنه يساهم في زيادة الطلب الكلي ويعزز النمو الاقتصادي.  فالاستثمار ليس مجرد إضافة إلى الطاقة الإنتاجية للاقتصاد في المدى الطويل، بل هو أيضًا محرك رئيسي للطلب على السلع والخدمات في المدى القصير. وبالتالي، فإن التقلبات الكبيرة في مستوى الاستثمار يمكن أن تكون مصدرًا لعدم الاستقرار الاقتصادي وتقلبات الدورات الاقتصادية.

أوضح كينز أن قرارات المستثمرين بشأن حجم الاستثمار لا تعتمد دائمًا على حسابات عقلانية دقيقة وتوقعات اقتصادية بحتة، بل تتأثر أيضًا بما أسماه "الروح الحيوانية" (Animal Spirits)، والتي تشير إلى التفاؤل والتشاؤم الغريزي الذي يحرك المستثمرين. تلعب التوقعات طويلة الأجل بشأن مستوى الربحية المستقبلية للمشاريع الاستثمارية دورًا حاسمًا في تشكيل قرارات المستثمرين. كما أن مستوى سعر الفائدة في الاقتصاد يؤثر على تكلفة الاقتراض اللازمة لتمويل الاستثمارات، وبالتالي يؤثر على جاذبية الاستثمار بالنسبة للشركات والأفراد. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي عدم اليقين بشأن الأوضاع الاقتصادية المستقبلية إلى تأجيل أو إلغاء قرارات الاستثمار، مما يؤثر سلبًا على مستوى الطلب الكلي والنمو الاقتصادي. إن التركيز على مفهوم "الروح الحيوانية" يسلط الضوء على الجوانب النفسية وغير العقلانية التي يمكن أن تؤثر في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالاستثمار. يشير هذا إلى أن السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى تحفيز الاستثمار يجب أن تأخذ في الاعتبار هذه العوامل النفسية بالإضافة إلى المؤشرات الاقتصادية التقليدية. فالنموذج الاقتصادي الكلاسيكي غالبًا ما يفترض أن الأفراد والشركات يتخذون قرارات عقلانية تمامًا بناءً على معلومات كاملة ومتاحة. لكن كينز أدرك أن الواقع أكثر تعقيدًا، وأن المشاعر والتوقعات يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في دفع الدورات الاقتصادية نحو الازدهار أو الانكماش.


5. تدخل الحكومة والسياسات الاقتصادية :

اعتقد كينز بقوة أن الحكومة يجب أن تلعب دورًا نشطًا ومهمًا في إدارة مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد بهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي والوصول إلى مستوى التوظيف الكامل للموارد المتاحة. جادل بأن آليات السوق الحرة وحدها لا تستطيع دائمًا تصحيح حالات الركود الاقتصادي والبطالة المرتفعة بشكل فعال وسريع. وأكد على ضرورة تدخل الحكومة بشكل خاص لزيادة مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد خلال فترات الركود، وذلك لتعويض الانخفاض الحاد في الإنفاق من قبل القطاع الخاص وتحفيز النشاط الاقتصادي. لقد كانت دعوة كينز لتدخل الحكومة في الاقتصاد بمثابة تحول جذري عن مبادئ "عدم التدخل" التي كانت سائدة في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي. فقد رأى كينز أن الحكومة لديها القدرة والمسؤولية اللازمة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والحد من تقلبات الدورات الاقتصادية. ففي ظل أزمة الكساد الكبير، بدا واضحًا أن "اليد الخفية" للسوق لم تكن قادرة على إعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح بشكل تلقائي. لذلك، رأى كينز أن هناك حاجة إلى تدخل مباشر ومنسق من قبل الحكومة لتحفيز النشاط الاقتصادي وتوفير فرص العمل للمواطنين.

دعا كينز إلى استخدام السياسة المالية (Fiscal Policy) كأداة رئيسية للتأثير على مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد. وخلال فترات الركود الاقتصادي، اقترح كينز أن تقوم الحكومة بزيادة حجم إنفاقها على المشاريع المختلفة (مثل مشاريع البنية التحتية) وخفض معدلات الضرائب لتحفيز الطلب العام في الاقتصاد وخلق المزيد من فرص العمل. وعلى العكس من ذلك، خلال فترات الازدهار الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم، اقترح كينز أن تقوم الحكومة بخفض حجم إنفاقها وزيادة معدلات الضرائب بهدف تهدئة النشاط الاقتصادي ومنع ارتفاع الأسعار بشكل مفرط. كما عارض كينز بشدة فكرة الحفاظ على ميزانيات حكومية متوازنة خلال فترات الركود الاقتصادي، ودعا بدلاً من ذلك إلى تبني سياسة "الإنفاق بالعجز" (Deficit Spending) كأداة ضرورية لتحفيز الاقتصاد وإخراجه من حالة الركود. لقد أصبحت السياسة المالية أداة رئيسية لإدارة الاقتصاد الكلي بعد تبني أفكار كينز على نطاق واسع. فكرة استخدام الإنفاق الحكومي والضرائب بشكل فعال لمواجهة تقلبات الدورات الاقتصادية كانت جديدة ومثيرة للجدل في عصره، حيث كانت الفكرة السائدة هي ضرورة الحفاظ على ميزانية متوازنة دائمًا.

بالإضافة إلى السياسة المالية، اعترف كينز أيضًا بدور السياسة النقدية (Monetary Policy) في التأثير على أسعار الفائدة ومستوى عرض النقود في الاقتصاد، وبالتالي على قرارات الاستثمار ومستوى الطلب الكلي. فخلال فترات الركود الاقتصادي، يمكن للبنوك المركزية أن تقوم بخفض أسعار الفائدة بهدف تشجيع الأفراد والشركات على الاقتراض والاستثمار، مما يزيد من مستوى الإنفاق والنشاط الاقتصادي.2 ومع ذلك، أشار كينز إلى أن فعالية السياسة النقدية قد تكون محدودة في حالات ما أسماه بـ "مصيدة السيولة" (Liquidity Trap)، وهي حالة ينخفض فيها سعر الفائدة إلى مستوى منخفض جدًا بحيث لا يؤدي المزيد من الخفض في سعر الفائدة إلى زيادة في الاستثمار والإنفاق، وذلك لأن الأفراد والشركات يفضلون الاحتفاظ بالسيولة النقدية بسبب حالة التشاؤم وعدم اليقين السائدة في الاقتصاد. في مثل هذه الحالات، تصبح السياسة المالية أكثر فعالية في تحفيز الاقتصاد وإخراجه من حالة الركود. لم يرفض كينز دور السياسة النقدية بشكل كامل، لكنه أدرك القيود التي تواجهها في بعض الظروف الاقتصادية، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية العميقة. وقد أدى هذا الإدراك إلى التركيز بشكل أكبر على أهمية السياسة المالية كأداة رئيسية لإدارة مستوى الطلب الكلي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. ففي حين أن خفض أسعار الفائدة يمكن أن يكون أداة مفيدة لتحفيز الاقتصاد في الظروف الاقتصادية العادية، إلا أن كينز أدرك أنه عندما يسود التشاؤم الشديد في الاقتصاد، قد لا يكون الأفراد والشركات على استعداد للاقتراض والاستثمار حتى لو كانت أسعار الفائدة منخفضة للغاية. في مثل هذه الحالة، يصبح التدخل المباشر من الحكومة من خلال زيادة الإنفاق أكثر فعالية في تحفيز النشاط الاقتصادي وإعادة الثقة إلى الأسواق.


6. مقارنة نظرية كينز بالاقتصاد الكلاسيكي :

تختلف نظرية كينز الاقتصادية بشكل جوهري عن الاقتصاد الكلاسيكي في العديد من الافتراضات والنتائج. يفترض الاقتصاد الكلاسيكي أن الأسواق تتمتع بقدرة ذاتية على التنظيم، وأنها ستصل دائمًا إلى حالة التوظيف الكامل لجميع الموارد الاقتصادية المتاحة في المدى الطويل. كما يفترض مرونة كاملة في الأسعار والأجور، مما يسمح للأسواق بالتكيف بسرعة مع أي صدمات أو اختلالات. يركز الاقتصاد الكلاسيكي بشكل أساسي على جانب العرض من الاقتصاد  ويؤمن بما يُعرف بقانون ساي، الذي ينص على أن العرض يخلق الطلب الخاص به. وبناءً على هذه الافتراضات، يعتقد الاقتصاديون الكلاسيكيون أن تدخل الحكومة في الاقتصاد يجب أن يكون محدودًا للغاية.

في المقابل، يرى كينز أن الاقتصاد يمكن أن يستقر عند مستوى أقل من التوظيف الكامل للموارد لفترة طويلة من الزمن، وذلك بسبب عدم كفاية مستوى الطلب الكلي على السلع والخدمات. كما أكد على وجود "جمود" في الأسعار والأجور في المدى القصير، مما يعيق قدرة الأسواق على التكيف بسرعة. ركز كينز بشكل أساسي على جانب الطلب من الاقتصاد  وجادل بأن مستوى الطلب الكلي هو المحرك الرئيسي لمستوى الناتج والتوظيف في الاقتصاد. وبناءً على هذا التحليل، دعا كينز إلى تدخل نشط من الحكومة في الاقتصاد لإدارة مستوى الطلب الكلي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتوظيف الكامل للموارد. لقد كانت نظرية كينز بمثابة قطيعة جذرية مع الاقتصاد الكلاسيكي، حيث تحدت العديد من الافتراضات الأساسية التي كان يقوم عليها وقدمت رؤية مختلفة تمامًا لكيفية عمل الاقتصاد الكلي. كان هذا الاختلاف في الرؤى له آثار عملية كبيرة على السياسات الاقتصادية التي تم تبنيها في العقود اللاحقة. ففهم هذه الاختلافات ضروري لتقييم فعالية السياسات الاقتصادية المختلفة في مواجهة التحديات الاقتصادية المعاصرة.

كما ذكرنا، ركز كينز بشكل أساسي على دور الطلب الكلي في تحديد مستوى النشاط الاقتصادي ، بينما اعتبر الاقتصاديون الكلاسيكيون أن العرض هو العامل المحدد الرئيسي للنمو الاقتصادي وأن الطلب سيستجيب تلقائيًا لمستوى العرض. هذا الاختلاف في التركيز أدى إلى اختلافات كبيرة في توصيات السياسات الاقتصادية. حيث يفضل الاقتصاديون الكلاسيكيون سياسات جانب العرض (مثل خفض الضرائب على الشركات وتحرير الأسواق)، بينما يفضل الكينزيون سياسات جانب الطلب (مثل زيادة الإنفاق الحكومي وخفض الضرائب على الأفراد). هذا التباين بين التركيز على العرض والطلب لا يزال قائمًا حتى اليوم في النقاشات الاقتصادية حول أفضل السبل لتحقيق النمو والاستقرار الاقتصاديين. فالنقاش حول ما إذا كان يجب التركيز على تحفيز العرض أو الطلب هو نقاش مستمر في علم الاقتصاد، ونظرية كينز قدمت حجة قوية لصالح التركيز على الطلب، خاصة في أوقات الركود الاقتصادي.

7. تأثير "النظرية العامة" على الفكر والسياسات الاقتصادية اللاحقة :

يُعتبر كتاب "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد" أحد أكثر الكتب تأثيرًا في تاريخ علم الاقتصاد.  لقد أحدث هذا الكتاب "ثورة كينزية" في التفكير الاقتصادي وأسس لما يُعرف بعلم الاقتصاد الكلي الحديث. لقد غير الكتاب بشكل جذري الطريقة التي يفكر بها الاقتصاديون حول قضايا البطالة والركود الاقتصادي ودور الحكومة في إدارة الاقتصاد. كما قدم الكتاب العديد من المفاهيم الجديدة مثل الطلب الكلي، وميل المستهلك، وتفضيل السيولة، والمضاعف، والتي أصبحت أدوات أساسية في التحليل الاقتصادي الكلي. لم يقتصر تأثير "النظرية العامة" على الأوساط الأكاديمية فحسب، بل امتد ليشمل السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومات في جميع أنحاء العالم. لقد شكلت أفكار كينز بشكل كبير طريقة تعامل الدول مع الأزمات الاقتصادية لعقود طويلة بعد نشره.

تم تبني أفكار كينز على نطاق واسع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبحت الأساس للسياسات الاقتصادية في العديد من الدول الغربية.2 فقد ساعدت أفكاره في صياغة ما عُرف بـ "الصفقة الجديدة" (New Deal) التي أطلقها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت خلال فترة الكساد الكبير بهدف إخراج الولايات المتحدة من الأزمة الاقتصادية. كما أثرت أفكاره بشكل كبير على القوانين والسياسات التي تم تبنيها في العديد من البلدان بهدف الحفاظ على مستوى عالٍ ومستقر من التوظيف.  وحتى في الأزمات الاقتصادية اللاحقة، مثل الأزمة المالية العالمية في عام 2008، تم اللجوء إلى السياسات الكينزية كأحد الحلول المقترحة لمواجهة التداعيات الاقتصادية. ومع ذلك، فإن تبني الحكومات لأفكار كينز لم يكن دائمًا دون معارضة أو تعديل. فمع مرور الوقت، ظهرت انتقادات للنظرية الكينزية وتطورت مدارس فكرية اقتصادية جديدة. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال تأثير كينز على السياسات الاقتصادية واضحًا حتى يومنا هذا. فعلى الرغم من ظهور مدارس اقتصادية أخرى، مثل المدرسة النقدية والاقتصاد الكلاسيكي الجديد، التي تحدت بعض جوانب نظرية كينز، إلا أن أفكاره الأساسية حول دور الطلب الكلي وأهمية تدخل الحكومة لا تزال ذات صلة وتستخدم في تشكيل السياسات الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم.

لا تزال أفكار كينز تحتفظ بأهمية كبيرة في فهم وتحليل الدورات الاقتصادية والأزمات المالية في الاقتصاد المعاصر. ولا يزال النقاش مستمرًا بين الاقتصاديين حول فعالية السياسات الكينزية، وتوقيت استخدامها، وحجم التدخل الحكومي المطلوب. وقد تم تطوير نماذج اقتصادية حديثة تسعى إلى الجمع بين أفكار كينز والنظريات الاقتصادية الأخرى بهدف تقديم تحليل أكثر شمولية للظواهر الاقتصادية. على الرغم من مرور عقود على نشر "النظرية العامة"، إلا أن الأسئلة الأساسية التي طرحها كينز حول أسباب البطالة والركود الاقتصادي، والدور المناسب للحكومة في إدارة الاقتصاد، لا تزال قيد البحث والنقاش المستمر بين الاقتصاديين وصناع السياسات. فأفكاره لا تزال تشكل جزءًا أساسيًا من الأدوات التحليلية التي يستخدمها الاقتصاديون وصناع السياسات لفهم التحديات الاقتصادية المعاصرة والتعامل معها. وحتى لو تم تعديل بعض جوانب نظريته أو دمجها مع أفكار أخرى، فإن مساهمته الأساسية في تطوير فهمنا للاقتصاد الكلي لا تزال لا تقدر بثمن.

8. خلاصة :

قدم جون ماينارد كينز في كتابه "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقد" مساهمات هامة وثورية في فهمنا للاقتصاد الكلي. فقد أكد على الأهمية القصوى للطلب الكلي كمحرك رئيسي لمستوى الناتج والتوظيف في الاقتصاد ، وقدم تفسيرًا مقنعًا لأسباب البطالة والركود الاقتصادي من منظور نقص الطلب الكلي. كما أوضح الدور الحيوي الذي يلعبه الاستثمار وتقلباته في تحديد مسار الدورات الاقتصادية المختلفة ، وبرر تدخل الحكومة في الاقتصاد من خلال استخدام السياسات المالية والنقدية كأدوات فعالة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والحد من البطالة. يُعتبر كتاب "النظرية العامة" نقطة تحول جذرية في تاريخ الفكر الاقتصادي، حيث أسس لعلم الاقتصاد الكلي الحديث وغير بشكل كبير طريقة تفكير الاقتصاديين حول القضايا الاقتصادية الكلية. ولا يزال تأثير أفكار كينز واضحًا ومستمرًا في السياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومات في جميع أنحاء العالم حتى يومنا هذا.


الجدول 1: مقارنة بين الاقتصاد الكلاسيكي والاقتصاد الكينزي

الخاصيةالاقتصاد الكلاسيكيالاقتصاد الكينزي
الافتراض الأساسيالأسواق ذاتية التنظيم وتصل للتوظيف الكامل في المدى الطويلالاقتصاد يمكن أن يستقر عند أقل من التوظيف الكامل لفترة طويلة
مرونة الأسعار والأجورمرنةجامدة في المدى القصير
التركيز الرئيسيجانب العرضجانب الطلب
دور الحكومةمحدودنشط وضروري لتحقيق الاستقرار
أسباب البطالةعوامل جانب العرض (جمود الأجور، إلخ)نقص الطلب الكلي
الأفق الزمني للتحليلالمدى الطويلالمدى القصير

الجدول 2: المفاهيم الأساسية في نظرية كينز وتعريفاتها

المفهومالتعريفالأهمية في نظرية كينز
الطلب الكليإجمالي الإنفاق على السلع والخدمات في الاقتصاد.المحرك الرئيسي للناتج والتوظيف. نقص الطلب يؤدي إلى الركود والبطالة.
ميل المستهلكالنسبة من أي زيادة في الدخل التي يخصصها الأفراد للاستهلاك.يؤثر على حجم الإنفاق الاستهلاكي وبالتالي على الطلب الكلي. يلعب دورًا في تحديد حجم المضاعف.
تفضيل السيولةرغبة الأفراد والشركات في الاحتفاظ بأصول سائلة (نقد) بدلاً من أصول أقل سيولة.يؤثر على الطلب على النقد وبالتالي على سعر الفائدة. ارتفاع تفضيل السيولة يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وتثبيط الاستثمار.
المضاعفيشير إلى أن أي زيادة في الإنفاق الأولي ستؤدي إلى زيادة أكبر في الدخل القومي.يوضح كيف يمكن لتدخلات صغيرة في الإنفاق أن يكون لها تأثير كبير على الاقتصاد. يستخدم لتبرير تدخل الحكومة لتحفيز الطلب خلال الركود.